الأخطاء الاتصالية عند السياسيين في تونس: والظاهرة مستمرة!

الأخطاء الاتصالية عند السياسيين في تونس: والظاهرة مستمرة!

ما هي الأسباب التي يمكن أن تفسر الأخطاء الاتصالية التي تحدث من حين لأخر في بلادنا من قبل السياسيين؟ هل يعود ذلك لنقص التجربة السياسية لعدد من الفاعلين في المجال؟ فالتجربة السياسة عندما تكون ضعيفة أو ناقصة عند البعض ولم يمر صاحبها بأحداث مثل الأزمات لا تمكن من التراكمات التي يتم بفضلها التعلم من الأخطاء وتقويمها ونتفادى بالطبع تكرار ما قد أضر.

" على من يحكم الإقناع". هذه المقولة الشهيرة لنيكولاي ماكيافال وردت في شكل نصيحة لمن يرغب في ممارسة السياسة. وهي مقولة أرادها صاحب كتاب "الأمير" الذي يعتبر منذ قرون مرجعا لكل من يمتهن هذا المجال للتأكيد على أهمية التواصل الذي يوفر للسياسي القدرة على كسب ثقة الناس فيما يسعى إليه ويجعلهم يوافقون على قراراته. وللتواصل بالفعل أولوية في العمل السياسي لا فائدة في التأكيد عليها في عصر يصنع فيه الإعلام الرأي العام من خلال ما يوفره من رسائل هادفة.

وتعتبر الأخطاء الاتصالية من هذه الزاوية بمختلف أنواعها عائقا كبيرا قد يضر بصاحبه إذ أنه لا يسهل تمرير رسائله وتلميع صورته لدى من يتولى استهدافهم ويسمح لغيره من المنافسين خاصة من اغتنام الفرصة للإساءة إليه وتدمير ما سعى إليه أحيانا على امتداد سنوات كثيرة.

كذلك يبدو الأمر بالنسبة إلى الخطأ الذي وقع فيه رئيس مجلس نواب الشعب عندما قال يوم 31 جانفي 2021 في حوار افتراضي بث على الأنترنات مع مخاطب من خارج الوطن أن دور رئيس الدولة "رمزي". ولنتوقف هنا قليلا لنقول إن السيد راشد الغنوشي لم يكن بالضرورة يقصد الرئيس قيس سعيد ولا الواقع التونسي بل كان يتحدث كما يقال في المطلق.

غير أن هذا نوع من التصريحات لابد أن يأخذ صاحبها في الاعتبار جملة من المتغيرات التي يعرفها المختصون في الاتصال السياسي. ومن بينها ما يسمى في منوال الاتصال أي المسلك الذي تمر من خلاله الرسالة "الإطار". بمعنى علاقة ما يعلن عنه بالواقع المحيط ومن ذلك الظرف الزمني. وفي حالتنا هذه الأمر يتعلق بالطبع بالخلاف الحاصل بين رئيس الدولة ورئيس البرلمان في خصوص تأدية اليمين والذي ما أزاله من حبر.

واقع معقد

ولنتوقف قليلا كذلك للقول إن السيد رئيس مجلس نواب الشعب ليس المسؤول الوحيد الذي صدرت عنه أخطاء اتصالية وهي من الظواهر التي أبرزتها الممارسة السياسية في بلادنا ومن بينها تلك الأخطاء التي أصبح يتندر بها الشارع التونسي مثل أن "استهلاك زيت الزيتون ليس من عادات الأكل للشعب التونسي" أو أن " أزمة المياه في تونس تعود إلى الفترة الرومانية".  والحال أن البنى التحتية الرومانية في المجال يضرب بها المثل وأكبر عنوان على ذلك شبكة جلب المياه من مدينة زغوان التي تقف شاهدا عل عكس ما قيل.

وعندما نحاول أن نتعرف على طبيعة هذه الأخطاء فإننا نجد أنفسنا أمام واقع معقد لا يسمح لنا بتوفير سبب واحد أو سببين أو حتى ثلاثة وكما يقول الباحث الفرنسي مارسال ماوس الذي يعتبر من أباء الأنثروبولوجيا في دراسته حول "الهبة" في مجتمع بدائي فإن أي ظاهرة اجتماعية هي بالأساس ظاهرة "شاملة" لا يمكن فهمها إلا من خلال منظور واحد.

ولعل من الأسباب التي يمكن بفضلها فهم هذا الأمر هي ضعف أو نقص التجربة السياسة لأصحابها علما بالطبع أن هذه الأخيرة عندما لا يمر السياسي بأحداث مثل الأزمات فإنها لا تولد تراكمات تمكن المسؤول من أن يتعلم من أخطائه وأخطاء الأخرين وأن يقوم الوضع ويتفادى بالطبع تكرار ما قد أضربه.

ولا يمكن أن تغيب عنا هنا الإشارة إلى أن فيما مضى أي قبل 2011 كان الاتصال يتسم بخطاب أحادي وبالكلمة الواحدة وأن إمكانية نقد أو مناقشة ما يتم الإعلان عنه غير متاح بالمرة والخطاب بطبيعته مقيد بضوابط واضحة لخدمة أهداف تخدم نظام سياسي واضح المعالم.

ولنتذكر أن المسؤولين في الدولة ما عدا بالطبع رئيسها كانوا ممنوعين تقريبا من الحديث وإن تحدثوا فبأمر وذلك لتقديم مضمون يتم إعداده مسبقا وبكل دقة وهو مضمون لا يخلو من لغة خشبية تعود عليها الجميع وخطاب من نوع خاص وبالعودة إلى مقولة فرنسية معروفة ف"كل شيء على ما يرام سيدتي".

وفي السياق ذاته فإن ما يعوز العملية الاتصالية في بلادنا كذلك هو غياب التكوين الاتصالي للأكثرية الساحقة من المسؤولين السياسيين الذين لم يتحصلوا دائما في دراستهم على تكوين في المجال على عكس ما هو موجود في الدول الديمقراطية التي سبقتنا في الممارسة السياسية.

هيكل قار ومثبت

ففي فرنسا مثلا من أهم الدروس المدرجة في المدرسة القومية للإدارة التي تتولى تكوين إطارات الدولة درس يسمى "ورشة المنهجية" والذي يتعلم الطلبة من خلاله كيف نحسن القراءة (التقارير والدراسات) وكيف نكتب وكيف نخاطب الأخر. وهو تكوين تواءم و ما تفرضه اليوم تقنيات الاتصال الناجحة والناجعة.

علما أن هذا التكوين لا يتوقف عند الدراسة الجامعية بل يتواصل من خلال علميات التدريب المستمر بعد الالتحاق بالحياة المهنية بفضل ما يسمى ب "الكوتشينغ" أي تكوين يأتي في شكل استشارات وتدريبات على أرض الواقع بما في ذلك التدريب على الحديث إلى وسائل الإعلام والذي يطلق عليه اسم ال"ميديا تراينينغ".

هذا بالطبع فضلا عن وجود هياكل اتصالية في كل المواقع السياسية تتوفر على كفاءات متخرجة من مدارس متخصصة وتحمل تجربة في المجال تقوم بإعداد المضامين وتقييمها بعد صدورها وكذلك متابعة تأثيراتها. فالحزب الاشتراكي الفرنسي الذي حكم فرنسا خلال فترات مختلفة يشغل ما يقارب عشرين موظفا في إدارته للاتصال فضلا عن استعانته بعديد الخبراء من خارج الدار. علما كذلك أن هذه الإدارة قارة ومثبتة في هياكل الحزب ويتم التفريق بينها وبين خطة المستشار الاتصالي للمسؤول المباشر عن الحزب الذي يشتغل أحيانا على ملفات أخرى ويحصل أن يتغير مع تغيير المسؤول الأول.

ويطرح موضوع الاتصال السياسي وفاعليته بقوة ومن هذا السياق مسألة قيمة ووظيفة    الاتصال في المجتمعات. فالمعروف مثلا أن المجتمعات الأنغلوسكسونية مثل الولايات المتحدة الأمريكية و   بريطانيا العظمى تؤمن بأن المعلومة تصبح هامة عندما تعمم بين الناس و  ذلك على عكس المجتمعات اللاتينية مثل فرنسا و إيطاليا أو إسبانيا التي تعتقد أن من يملك المعلومة يملك السلطة.

و   في دراسة أجريت بين الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا سنة 1997 و تولت نشر نتائجها يومية "لي يكو" الفرنسية يوم 22 أفريل من نفس السنة تبين أن 71 في المائة من الشركات الأمريكية تستشير دوما مصالح الاتصال التابعة لها قبل الاقدام على قرار استراتيجي في حين ان نسبة الشركات الفرنسية التي تفعل نفس الشيء لا تتجاوز 18 في المائة. أي أن الاتصال يعتبر في الولايات المتحدة – و هو ما خلصت إليه الدراسة -  جزء لا يتجزأ من عملية أخذ القرار يسبقه و يصاحبه ويدرس وقعه وكيفية تقبله.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو بالطبع: أين نحن من كل هذا؟ وللإجابة يكفي أن نقارن بين واقعنا وواقع الأخرين الذين اعتمدوا الديمقراطية كنهج للحكم.

محمد قنطاره

التعليقات

علِّق