إقامة المجتمع الصيني العربي للمستقبل المشترك في العصر الجديد

إقامة المجتمع الصيني العربي للمستقبل المشترك في العصر الجديد

بمناسبة االقمّة العربية الصينية  التي انعقدت مؤخرا  بالمملكة العربية السعودية أكد  وزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج ( سابقا ) عثمان الجرندي للمبعوث الصيني الخاص وسفير المنتدى العربي الصيني " لي شان"  الذي زار تونس  عزم  بلادنا  على الإسهام في نجاح القمة العربية الصينية  والتعاون  الصيني العربي مؤكدا أهمية أن تفضي أشغال  تلك  القمة إلى مخرجات ومشاريع عملّية  تساهم في تطوير التعاون العربي الصيني في مختلف القطاعات وبصفة يلمسها المواطن العربي في حياته اليومية في مختلف القطاعات.

 ولئن عبّر  وزير الخارجية عن ارتياحه لما بلغته  العلاقات بين البلدين  وشكره للسلطات الصينية على دعمها لتونس في مواجهة جائحة كوفيد-19 خاصة  من خلال تمكينها من اللقاحات والمستلزمات الطبية الضرورية  وتمويل الصين لجملة من المشاريع التنموية في تونس  فإن نظرة المواطن التونسي العادي أو حتى المواطن التونسي الخبير قد تكون مختلفة نوعا ما عن الخطاب الرسمي لعدّة أسباب سأذكر أهمّها على الأقل نظرا إلى أن المجال لا يسمح بذكرها كلّها.

تاريخ طويل وحافل ولكن ...

تعود العلاقات الدّيبلوماسيّة  بين تونس وجمهورية الصّين الشعبيّة إلى سنة  1964 وهي علاقات  ترتكز بالخصوص  على مبدأ الاحترام المتبادل وعلى   المصلحة المشتركة.

وقد تميّزت هذه العلاقات على الصعيد السياسي  بالصداقة  والاحترام من خلال تبادل الزيارات  والتشاور السياسي والتنسيق المستمر في مواقف البلدين في المحافل الدولية من خلال آلية المشاورات السياسية التي تعقد سنويا بين وزيري خارجية البلدين عملا بمقتضيات الاتفاق الموقع بتونس بتاريخ 30 ديسمبر 1996.

مشاريع  صينية في تونس

قامت جمهورية الصين الشعبية خلال السنوات الماضية  وفي إطار التعاون الثنائي بإقامة مشاريع تنموية  كثيرة   لعلّ أهمها قنال مجردة - الوطن القبلي و والإنجازات التي   باتت تمثل رمزا لعلاقات الصداقة والتّعاون التي تجمع بين البلدين.
و منذ الثورة  التونسية في 2011  قامت  الصين  بمرافقة المجهود التنموي لتونس من خلال تقديم العديد من المساعدات العينية والهبات المالية إلى جانب تقديم عدد من القروض دون فوائض ساهمت في تطوير البنية التحتية وبناء السدود المائية.

وبالإضافة إلى ذلك ساهم التعاون التقني والفني والعلمي بين البلدين في  تعزيز المجهود التنموي بتونس  من خلال إرسال فرق طبية صينية مختصة ساعدت بصفة ملحوظة  على  تطوير المجهود الطبي بتونس في اختصاصات محددة بمستشفيات كل من المرسى وجندوبة وسيدي بوزيد والقصرين وتطاوين ( على سبيل المثال ) و كذلك مشاركة خبراء وفنّيين تونسيين في دورات تكوينية في الصين  خاصة في مجال الغاز الطبيعي والفلاحة وتربية الأحياء المائية والطاقة الشمسية وتكنولوجيات الاتصال إضافة إلى أن الصين  تخصص منحا جامعية لفائدة طلبة تونسيين لمتابعة دراسة اللغة الصينية.

حان وقت التغيير؟

خلال سنواتها الأولى خضعت العلاقات بين البلدين إلى بعض التوجهات الإيديولوجية  جعلت الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة  يختار أن يكون التعاون موجّها أكثر إلى دول المعسكر الغربي وبالخصوص الولايات المتحدة الأمريكية  وفرنسا اللتين كانتا من أهم القوى العسكرية  والاقتصادية في  تلك الفترة  خلافا لبلدان المعسكر الشرقي أو الاشتراكي  الذي لم يكن  آنذاك بنفس القوة التي صار عليها اليوم .

 وبناء على هذا العنصر ورغم أن العلاقات السياسية بين البلدين كانت ممتازة  للغاية ومبنية على الثقة والاحترام  فإن التعاون الاقتصادي والتجاري لم يبلغ حجما كبيرا مقارنة بما كان يحدث مع بلدان المعسكر الغربي وخاصة أوروبا بحكم القرب الجغرافي بين تونس والقارة العجوز من ناحية وعدم تفكير  السياسيين في تونس في  البحث عن منافذ اقتصادية جديدة يمكن أن توفّرها تحالفات جديدة تقطع مع " الروتين الاقتصادي " إن صحّ التعبير وتؤسس لدعامات جديدة للاقتصاد التونسي.

 وبالرغم من أن  التعاون التونسي الصيني شهد خلال فترة ما بعد بورقيبة بعض  النسق التصاعدي فإنه لم يبلغ الدرجة التي يتطلّع إليها الشعبان في البلدين . وبعد الثورة التونسية  يبدو أن الإرادة السياسية لدى الجانبين  توفرت  وبات العزم مشتركا  على تطوير هذه العلاقات على قاعدة المنفعة والربح المشتركين . لكن هل بلغ هذا التعاون فعلا تلك الدرجة التي يتطلّع إليها المواطن التونسي الذي بات على درجة كبيرة من الوعي ومدركا أن القوى التقليدية  الغربية لم يعد لديها الكثير مما تقدّمه لتونس بل ربّما العكس هو الذي يحصل خلال السنوات الخمس الأخيرة على سبيل المثال إذ شهد الاقتصاد التونسي تراجعا ملحوظا وانكماشا غير مسبوق وفي المقابل لم  تشفع لنا علاقاتنا التاريخية مع فرنسا والولايات المتحدة وحلفائهما بالخصوص ولم  تسع هذه الأطراف إلى مساعدتنا على الخروج من أزماتنا الاقتصادية التي باتت تتفاقم عاما بعد عام.

ومن خلال كل ما يحدث نعتقد أن الوقت قد حان لإعادة رسم الأولويات وإعادة النظر في الكثير من التحالفات. وأعتقد هنا أن الإرادة الشعبية في تونس لو خيّروها بين طريقين ( الغرب والصين )  فإنها ستختار طريق التعاون مع الصين وربّما القطع نهائيا مع التحالفات القديمة التي لم تنفع الاقتصاد التونسي بالشكل المطلوب لأنها ببساطة مرتبطة بشروط الغرب علينا وتأكّده من أننا في حاجة دائمة له وأنه دائما في موقع قوة تسمح له بأن يملي ما يريد من الشروط.

منزلة بين منزلتين؟

وبطبيعة الحال يوجد تناقض طبيعي جدا بين النظرة الشعبية للأمور وبين النظرة الرسمية. واعتبارا للمصلحة الوطنيّة نحن لا ندعو إلى فسخ الماضي بجرّة قلم والانطلاق في تأسيس صفحة جديدة مع الجانب الصيني وبالتأكيد مع أطراف أخرى عربية وإفريقية بالخصوص. فالأعراف الديبلوماسية   والحنكة السياسية يقتضيان أن نتصرّف  بحكمة أكثر كي نستفيد أكثر. وقد أكدت تونس  في أكثر من مناسبة أن الصين  بلد صديق وقريب  منّا وأنه يمكن لنا أن نستفيد  من المبادرات  الصينية  في مجالات عدة وأنها تأمل في  أن تساهم الصين في إنجاز العديد من المشاريع   التنموية  خاصة في مجال البنية التحتية. وكل هذا يعني أمرا واحدا وهو: هل نكتفي بالقدر الموجود من التعاون مع الصين أم نبحث عن تطويره ومضاعفته إن شئنا ؟.

نحن نعلم جميعا بأن الصين الصديقة أنجزت  أو ساعدت على إنجاز العديد من المشاريع في تونس  على غرار المساهمة في بناء مستشفيات أو تجهيزها وبناء دور للشباب  وتجهيزها بما يلزم شبابها  سواء بالعاصمة أو بعض المدن الأخرى  إضافة إلى مشروع " بايدو" للأقمار الصناعية الموجود في تونس وقد  تم إنجازه في إطار مبادرة " الحزام والطريق"  وهو مشروع هام جدا للصينيين والبلدان العربية ولكن أيضا يكتسي أهمية كبرى على مستوى العلاقات الدولية بصفة عامة.

ونحن نعلم أيضا بأن تونس تباحث خلال السنوات الأخيرة مع الطرف الصيني بخصوص التعاون الثنائي  على أمل  تكثيف  هذا التعاون  خاصة في المجال السياحي والمشاريع المتعلقة بالبنية التحتية  إضافة إلى قطاعات هامة  في مجال  الخدمات وتكنولوجيات الاتصال الحديثة والطاقة . لكنّنا نعلم أيضا بأن هذا لا يكفي ولا يلبّي تطلّعات الشعب التونسي الذي سئم " الشروط " الغربية وسئم أن تتم مقايضته على الكثير من الأمور المهينة أحيانا مقابل أن تمنّ عليه  صناديق النقد الدولية بما لا يكاد يغني أو يسمن من جوع...

ونحن نعلم أيضا أن الحلول موجودة  وهي  لا تتطلّب سوى مواقف جريئة تقطع مع السياسات القديمة لترسي سياسات جديدة قوامها التعاون على أساس النديّة والمصالح المشتركة... ولا شكّ هنا أن المرشّح الأول ليكون ساعدنا الأيمن من منطلق الاحترام والتعاون غير المشروط والمصالح المشتركة هو جمهورية الصين الشعبية التي لا يمكن أن  يلغي التعاون معها بصفة نهائية  اتفاقيات سابقة  مع  " شركاء " سابقين بل سيفتح لنا هذا التعاون أبوابا أخرى تخرجنا من وضع البلد المضطرّ الذي يقبل بكافة الشروط إلى وضع البلد الذي تتوفّر أمامه خيارات عديدة فيختار أفضلها وما يتماشى مع مصلحة شعبه.


 

الصين والطاقة وآفاق المستقبل

 يعتبر التعاون في مجال الطاقة   من أهم مواضيع التعاون التي تهم الدول المصدرة للطاقة   على غرار  دول الخليج وبعض دول المغرب العربي .  وتمثّل  الطاقات البديلة والمتجددة من المجالات الكبرى التي تهتم بها الصين وحققت فيها خطوات هامة  وملحوظة.  وقد ظلّت تونس  دائما تبحث  مع الأصدقاء الصينيين  إمكانية إنجاز بعض المشاريع التي تهم الطاقات المتجددة  وخاصة منها الطاقة الشمسية.
ومع وجود  بعض  العوائق التي تحول دون الارتقاء بالعلاقات الاقتصادية التونسية الصينية إلى مستوى أعلى  وأرفع بكثير من الموجود فإن الجانب التونسي  يبدو عازما هذه المرة على قطع خطوات إيجابية أخرى نحو الصين  البلد الصديق  الذي يدرك  أغلب التونسيين  وخاصة من الشباب المتعلّم  أنه بعيد كل البعد عن النزعة المصلحية  الضيقة التي تطغى على تصرفات الدول الكبرى في تعاملاتهم مع الدول الصغرى النامية أو التي تسير على طريق النموّ .

ولعلّ في توجّه الصين نحو بلدان إفريقية عديدة  وكذلك البلدان العربية من أجل الاستثمار ومساعدتها على الرقيّ باقتصادها نحو مراتب أفضل دون ممارسة أيّة ضغوطات عليها خير دليل على أن العملاق الاقتصادي العالمي ( الصين ) يدرك أن مستقبل الثروات والتعاملات التجارية يوجد  في القارة الإفريقية التي تعتبر سوقا استهلاكية على قدر كبير من الأهميّة  بالإضافة طبعا إلى مزيد من التعاون مع البلدان العربية التي تتوفّر فيها فرص واعدة للتعاون والاستثمار بمنطق " رابح + رابح ".

ونحن نلاحظ اليوم بلا شك رغبة واضحة اليوم من الجانب التونسي  تقابلها استجابة من الجانب الصيني  من أجل المشاركة في مختلف المشاريع التي يمكن أن تحقق الإنتقال الإقتصادي في البلاد  التونسية  خاصة أن الصين قفزت خلال السنوات الأخيرة خطوات  هامة في المجال الاقتصادي وأصبحت تحظى بمكانة دولية  كبيرة  جدا في كافة المجالات.

نحو خطوات أخرى أكبر وأشمل

  
 لقد بات التونسيون مقتنعين أكثر من أي وقت مضى بأن  التعاون التقليدي  مع الأصدقاء الصينيين  يمكن أن يرتقي إلى مرتبة  الشراكة الفاعلة والأساسية بين البلدين في كافة المجالات وخاصة في مجال البنية التحتية والتكنولوجيات المتطورة وتكنولوجيات الإتصال والطاقات المتجددة وغيرها من المجالات التي باتت ممكنة بفضل تطوّر العصر من ناحية وتمكّن الجانب الصيني من أدوات العصر وهي التكنولوجيا الحديثة من جانب آخر.

 ولا شكّ أنه مطروح على  الدولة التونسية اليوم مراجعة القوانين التونسية التي  كانت  تعطّل  بشكل أو بآخر الإستثمارات والتعاون الثنائي بين البلدين  وإدخال  مرونة أكثر وإزالة كافة العوائق التي تحول دون الارتقاء بهذا التعاون إلى مستوى الشراكة .

ولا تفوّت  الدولة التونسية   أيّة فرصة لتؤكّد أن الصين بلد صديق  ساعدنا خلال السنوات الأولى من الاستقلال وما زال يساعدنا إلى حد اليوم  وأن  له مكانته الخاصة بالنسبة إلى تونس  التي عليها أن تعمل على تعزيز علاقتنا مع الصين ودفعها إلى مستويات أعلى وأرفع .

وللتذكير  فقد انضمّت تونس إلى مبادرة الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس الصيني  سنة 2013 و انخرط فيها ما لا يقلّ عن سبعين دولة من بينها 9 بلدان عربية.
وتهدف هذه المبادرة  مثلما نعلم إلى القيام بمشاريع تتعلق بالبنى التحتية  بما قيمته حوالي تريليون دولار لإعادة " طريق الحرير القديمة " وتشمل تمويل مرافئ وموانئ وطرق وسكك حديدية في مختلف أنحاء العالم.

وللتذكير أيضا فقد  شارك  رجال أعمال  تونسيين منخرطون بمجلس التعاون التونسي الصيني و يمثلون  مؤسسات  ناشطة في مجال الصناعات الغذائية والإلكترونيك والكيمياء في  عدد من المعارض الصينية  الدولية  إلى جانب مؤسسات عارضة مختصة في زيت الزيتون والصناعات التقليدية  التي أصبحت تشارك في هذا المعرض  الذي تهدف الصين  منذ زمن بعيد إلى جعله منصة مفتوحة لكافة دول العالم لعرض منتجاتها في السوق الصينية التي تعد ثاني أكبر سوق استهلاكية في العالم.

ما المطلوب اليوم؟

إننا نعتقد وبكل صدق أن الوقت قد حان بعد كل هذه العقود الطويلة من التعاون التونسي الصيني  للتفكير بصفة جدية في الرقيّ  بهذا التعاون وتطويره ليشمل مجالات أوسع وأعمق وأن ترتقي العلاقات بين البلدين إلى مستوى الشراكة الفعلية  في  كافة الميادين المشار إليها  أعلاه وغيرها من المجالات .

ونعتقد أيضا أنه بات لزاما عل  الدولة التونسية من هنا فصاعدا  أن  تزيل ما تبقّى من العوائق التي كانت تمنع أن يكون التعاون  بين  البلدين  أكبر وأشمل. وعلى هذا الأساس  فلا شيء  سيبرر مستقبلا أن نكتفي بهذا القدر من التعاون وهذه الشراكة  وألّا نرفعهما إلى مستويات  أعلى طالما أننا قادرون على أكثر من ذلك وطالما أن الشعبين في كلا البلدين يطمحان إلى أن تكون التعاملات أعمق وأوفر وأجدى وأنفع  للبلدين  اللذين تجمعهما مصالح واحدة ومشتركة من واجب كل طرف أن يعمل على تطويرها.

ونحن نعتقد أن الأمر يتعلّق اليوم بإرادة حقيقية في تطوير الموجود وأن هذه الإرادة متوفّرة بالقدر الكافي لدى الجانب الصيني والجانب التونسي على حدّ السواء.

جمال المالكي

التعليقات

علِّق