إعادة بناء السياسة الأورو- متوسطية من أجل ثروة أكثر ولامساواة أقلّ

إعادة بناء السياسة الأورو- متوسطية   من أجل ثروة  أكثر ولامساواة  أقلّ

 

بكل تأكيد  نحن نعيش مرحلة انتقالية نحو  الاقتصاد الرقمي تهيمن عليها التأثيرات القوية للشبكة واستغلال البيانات  والمعطيات على نطاق واسع   الأمر الذي يدخل الاضطراب على  حياتنا اليومية وعلى قوانيننا  ونماذجنا الاجتماعية. ومثل أي تغيير  فإن  هذا الانتقال يسبّب عدم الارتياح  وتصحبه  نقاشات واحتجاجات متعددة. فهو يؤدي إلى الكثير من النقاشات حول مستقبل التشغيل والهجرة ( الشرعية وغير الشرعية ) وهجرة الأدمغة  . وبالإضافة إلى تأثيره على بعض المهن فإن الاقتصاد الرقمي يغيّر بصفة هيكليّة توزيع مواطن الشغل ويدقّ الناقوس حول الأجور واضعا العديد من التحديات في ما يتعلّق بحق العمل والحماية  الاجتماعية .

لقد واجه  الطرح  الليبرالي  على مدى تاريخه  أزمات خطيرة مع المحركات البخارية والسكك الحديدية والكهرباء والسيارات والأنترنت و" الروبوتات  " والذكاء الاصطناعي ... ومثلما يقول  بيرغسون  (Bergson )  : " الغبار يختلف  لكن الدوامة  هي  ذاتها " .

ومع ذلك  نشهد  اليوم تسارع وتيرة الاضطراب  أو التخبّط التكنولوجي المربك والمحيّر. وقد أنتج العالم (والغموض  المتزايد فيه) وباء عالميا من الأوهام و خيبة الأمل.  وأمام عدم استقرار سوق الشغل  وبطالة المتخرّجين  الشباب  وتفاقم  عدم المساواة بين الأمم وداخل الأمم  ذاتها   أصبح العديد من الناس يعتقدون  (  عن خطأ   أو عن صواب )  أن التحرّر والعولمة  أداة كبيرة  تستفيد منها نخبة صغيرة على حساب الجماهير الواسعة .

وفي تونس حيث تتحقق  مكاسب  الديمقراطية ببطء فإن التونسيين غاضبون ولا يرون نهاية النفق لأن السنين  تتسارع وتتشابه  مع السقوط الذي لا نهاية له  للدينار( خلال السنوات الثماني الأخيرة فقد الدينار 52 بالمائة من قيمته أمام الدولار الأمريكي و 43.9  بالمائة من قيمته أمام اليورو )   والتضخم (أكثر من 7 ٪) وتدهور  المقدرة الشرائية  مما تسبب في تصاعد موجة  التشاؤم بين الأسر ورجال الأعمال  والباعثين  وانعدام أي أمل  في مستقبل أفضل ...

و قد دفع  هذا الأمر  طبعا الكثيرين منهم إلى التعبير عن احتجاجهم على إدارة الشأن  العام وسحب  الثقة من السياسيين والمؤسسات في ما يتعلّق بإدارة الشؤون العامة أو تقرير مستقبلنا.  وهذا ما جعل   أيضا عدد الشعبويين والمحتجّين من  مختلف  المشارب في ازدياد مستمرّ.

وهكذا أصبح الكثير منهم يرفض المفاوضات الجارية مع الاتحاد الأوروبي من أجل التوصل إلى اتفاقية تبادل  حرّ عميقة وشاملة (ALECA ) دون أن يدركوا حقًا إمكاناتها  ودون اقتراح بدائل قابلة للتطبيق  وغالبًا جرّاء  مصلحة  أو انتهازية سياسية.

وفي ضوء  هذا الوضع يكون  من مصلحة البلدان المتقدمة  من ناحية  إعادة بناء الرأسمالية من أجل مكافحة أفضل للاّمساواة  في سياق يتّسم بالحاجة إلى قدر أكبر من العدالة وتباطؤ النمو ويساعد بالتالي على صعود التطرف والشعبوية  ومن ناحية أخرى لدعم تنمية البلدان الفقيرة  من أجل محاربة حركات الهجرة بشكل فعال  ومحاربة  الهجرة غير الشرعية ( الحواجز والجدران  غير كافية) مع تشجيع الشراكات الحقيقية  وإتاحة الفرص  وفتح الآفاق  لجميع الأجيال الجديدة في البلدان النامية.

وأعتقد أن مسؤولية أوروبا الرئيسية هي الاستجابة إلى هذه الحاجة   وإعادة اختراع الرأسمالية واقتراح مسار جديد لجوارها  وهذا يتماشى مع تقاليدها.

العالم في حاجة أكثر إلى  أوروبا

 إن شخصين مترادفين جديدين سيقودان الاتحاد الأوروبي:  " Ursula von der Leyen "  في المفوضية الأوروبية و" Josep Borrel " في الشؤون الخارجية. و معا سيعملان على مواجهة  التحديات الداخلية والخارجية الملحّة التي تواجه الاتحاد الأوروبي .

ولأول مرة في تاريخ الاتحاد الأوروبي  ستتولى امرأة  قيادة المفوضية  اسمها  " Ursula von der Leyen "   . وهذه  الألمانية البالغة  60 عامًا  هي طبيبة  ووزيرة   للأسرة ووزيرة  دفاع سابقا . وهي متعددة اللغات وتتحدث  اللغة الفرنسية بطلاقة .

وقد قالت " أورسولا فون دير لين   " في هذا الإطار : " إن العالم يريد المزيد من أوروبا ويحتاج إلى صوت أوروبي قوي لا يمكن أن نحصل عليه إلا إذا كنا متّحدين"  مدركة  حجم التحديات العالمية  على غرار  التغيرات  المناخية  وإصلاح  منظمة التجارة العالمية والحفاظ  على تعددية الأطراف  (يمكن للصين أن تكون حليفًا قويًا لأنها تحتاج أيضًا إلى أوروبا قوية للحفاظ على عالم متعدد الأطراف. ) ومسألة الهجرة وصعود الشعوبية والمطالبات الاجتماعية ...

وأضافت " أورسولا "  قائلة :  " نعلم جميعًا أننا لن نكون قادرين على مواجهة التحديات إلا موحّدين  ومزدهرين  وأقوياء .  نحن نريد إطلاق  ندوة  حول مستقبل أوروبا  ستلتئم في دولنا الأعضاء و وستتركّز المناقشات  على كيفية تصور الشعوب  والأوروبيين لمستقبل الاتحاد الأوروبي ".

إذن  فمستقبل أوروبا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بجوارها المباشر في  الشرق كما في الجنوب .  ولهذا فهو يتطلب الكثير من الاهتمام والانتباه وأكثر من ذلك أيضا .

من جهة أخرى أصبح رئيس للبرلمان الأوروبي  سابقا "  جوزيف  بورّيل " ( 72 سنة ) الممثل السامي للشؤون الخارجية وهو يخلف " فيديريكا موغيريني " .  هذا الرجل  يملك  كل المواصفات اللازمة لإحياء " مسار  برشلونة " الغارق في "سياسة الجوار" مع طموح أكثر محدودية (عرض 2011 و 3M والمال و التنقل و الأسواق) وغالباً ما يتم انتقادها لأنها لم تكن  في مستوى مجابهة المخاطر الحالية في جنوب البحر الأبيض المتوسط.

ومن المؤكد أن " جوزيف بورّيل  " سيعطي بعدا  جديدًا لسياسة أوروبية  تفتقر إلى  رؤية حقيقية لتكامل طويل الأمد  وإلى أفق  ملموس في البحر الأبيض المتوسط . هذا البعد الجديد يجب أن يتم الاتفاق عليه  مسبقًا وإعطاء الأولوية للشباب   حتى يتمكنوا من تحرير أنفسهم من خلال المعرفة والتعليم والثقافة  ويمكن لهم بالتالي المساهمة في التنمية الوطنية والاستقرار الإقليمي.

وسيكون  " جوريف بورّيل " قادرا أيضًا على نقل التجربة الإسبانية  في الانتقال الديمقراطي وأن يواكب من خلال الاستثمارات الأوروبية النمو الاقتصادي في المنطقة  مثلما فعلت إسبانيا مع أمريكا اللاتينية  سابقا  خلال  ثمانينيات القرن الماضي .

وسيكون من الضروري وضع  استراتيجية  واضحة  من أجل تعزيز التنمية  في بعض البلدان  وهي ستؤثر بعد ذلك على مناطقها الفرعية .ففي شمال إفريقيا  على سبيل المثال  ستكون الأولوية   لدعم الانتقال   الديمقراطي والاقتصادي في تونس  التي ستساهم بعد ذلك في استقرار جيرانها.

كما أنه  من الضروري شرح العرض الأوروبي لتونس بشكل أفضل  والتأكيد على أن اتفاقية التجارة الحرة  " الأليكا " ليست مجرد اتفاقية تجارية. ويجب  على الرأسمالية واتفاقيات الشراكة الاقتصادية أن تعيد صياغة   نفسها وإلا فلن تتمكن من مجاراة  تصاعد  التفاوت والفوارق  في جميع أنحاء الكوكب . " لا يمكننا دائما دفع المزيد من أجل النمو عن طريق المزيد من عدم المساواة دائما. نحن  اليوم في نهاية هذا المنطق. " هكذا قال  وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي " برونو لو ماير "  في افتتاحه لمؤتمر في الغرض  بمدينة " بيرسي "  قبل أن يضيف : " من الضروري  أمن نسمع  ناقوس الخطر  من قبل جميع الذين يقولون إنهم لا يستفيدون من العولمة " ... في أوروبا وفي بلدان الجنوب  وفي المناطق المهمشة في هذه البلدان.

ويمكن أن تصبح " الأليكا " أداة  تدارك إقليمية حقيقية . وقد تم تسليط الضوء من خلال عمل الاقتصادي والفيلسوف الهندي  " Amartya  Sen "  والتأكيد على أن التنمية الإقليمية ليست مجرد مسألة إعادة توزيع الأموال  ولكن أيضا يجب أن تكون المناطق قادرة على استخدامها.

ومن هنا تأتي الحاجة إلى السماح للمناطق بأن تصبح مستقلة في خلق الثروة وفرص العمل. وبالتالي  فمن أجل سياسة فعالة للتنمية الإقليمية  يجب على الدولة   بالتعاون  مع الجهات المانحة  أن تخرج من  منطق إعادة التوزيع من أجل المضي قدماً نحو المساواة من حيث الحقوق والحريات مع إزالة جميع العقبات التي تخلق التفاوت و الفجوات في القدرات بين المناطق المختلفة.

وفي هذا السياق  يجب أن يُفهم الإحباط  وخيبة الأمل على أنهما  حرمان من القدرات الأساسية وليس فقط على أنهما   ضعف في الدخل . إن النمو الشامل يضع مبدأ المساواة في القدرات الأساسية  وليس المساواة في المرافق كما في النفعية  أو المساواة في "السلع الأساسية" (السلع المفيدة  مهما  كان مشروعنا  العقلاني للحياة ) كما يقول " John Rawls  " .

إن وضع سياسة إنمائية فعالة (شاملة) يوسّع إمكانيات كل فرد في العمل .  ويجب على جميع المواطنين الذين يرغبون في القيام بذلك أن يكونوا قادرين على  الاختيار والعمل.

ويعبّر " Amartya Sen "  الذي عمل على نطاق واسع على  هذه القضايا  بوضوح عن فكرة القدرة كحرية ...  حرية استخدام  مكاسبهم المادية واللامادية لاختيار الطريقة  الأنسب لحياتهم . إنها القدرة على ممارسة حرية الاختيار. فكلما زادت الفرص المتاحة للشخص  زادت قدرته على الجمع بينها بطرق مختلفة وعلى تغيير حياته. والثروة   من حيث القدرات تعني أن تكون لنا أنماط  حياة  مختلفة وممكنة. أما  أن تكون فقيرًا  فذلك يعني وجود خيارات قليلة  خلال  كافة من مراحل الحياة. وبالنسبة  إلى " Amartya Sen " فإن مسألة عدم المساواة  هي التي يجب تصحيحها.

ويجب أن يؤدي الانتقال الاقتصادي الناجح إلى أفراد قادرين و أحرار في ممارسة الفعل . وهذه القدرة مرتهنة بشروط البداية. كما أن  المساواة في بدايتها تتطلب تعليماً حديثاً متاحا ويمكن الوصول إليه وتعلمًا مدى الحياة . ويبقى التعليم (المدرسي  والجامعي ) المحور الأساسي لتكوين رأس المال البشري . ومع ذلك من الضروري تحديثه وتكملته بالتدريبات  المهنية  والتكوين  المستمر (في انتظار إصلاح نظام التعليم).

وفي النهاية  يجب إعادة النظر في مسألة  التعليم بشكل جذري وشامل (الشكل والمحتوى) لتمكين الأجيال المقبلة من مواجهة تحديات العالم الرقمي  الذي يشهد تغييرات   لا تكاد تنتهي . ويتعلّق الأمر خاصة بكيفيّة أن نتعلم كيف  وماذا علينا أن نتعلم. فتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ما فتئت تحدث ثورة في التعليم.  و 70٪ من الوظائف التي سيشغلها الأطفال  الذين يرتادون المدارس حاليا  لم  توجد بعد .

أخيرًا وليس آخرًا   وضع  ما يسمى " pack migratoire  " (  أو حزمة الهجرة )   وتتضمن هذه الحزمة سلسلة من المهام للجانب التونسي  مقابل الحصول على مساعدة تقنية ومالية أوروبية إضافية  إلى جانب تسهيل التأشيرة لمقدّمي الخدمات .ولا شك أن ضغط الهجرة من إفريقيا سيتزايد بشكل كبير ولافت  في السنوات القادمة.

وسيتطلب ذلك جهدا  كبيرا من الجانب التونسي  خاصة في تعزيز مراقبة الحدود ومكافحة الدخول  غير الشرعي  وتهريب المهاجرين بصورة غير مشروعة  . وهو نشاط لبناء القدرات في مجال الهجرة واللجوء  طبقا  لنموذج  العمل لاتفاقية " شنغان "... وسيؤدي هذا التعاون في النهاية إلى إنشاء مناطق عازلة لتدفقات الهجرة في القارة الإفريقية. وسوف  يشمل  هذا المسار  أيضًا إعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى أوطانهم.

هذه الخدمات سوف تتطلب إنشاء شبكة من التعاون  الأمني و القضائي لتعزيز الإدارة " المشتركة " و " المتكاملة " للهجرة  مقابل الحصول على المساعدة في إنشاء أنظمة يقظة إلكترونية. ولن يكون هناك نجاح اقتصادي دون عدالة اجتماعية وتنمية ومكافحة للفقر.

لا  نجاح اقتصاديا دون عدالة اجتماعية وتنمية ومكافحة للفقر

ولا شكّ أن لدى تونس  الإمكانات والقدرة على النجاح في تحولها الاقتصادي  ولكن هذا يمرّ عبر خيارات أساسية: خيارات التنافسية والابتكار والصادرات  وبالتالي  عبر جرعة معينة من الليبرالية. وقد قال  السياسي والصحافي والمؤرخ الإيطالي " كارلو روسيلي  " (1899- 1937 )  و مؤسس الاشتراكية الليبرالية  إن المجتمع الليبرالي  كليّا  هو المجتمع الذي " تصل  فيه الحرية إلى حياة  الناس  الأكثر فقرا ".

وقال أيضا  إن المطلوب هو أن تتوقف الحرية عن أن تكون لها قيمة  لدى النخبة فقط وأن تتمكن من  الوصول إلى  حياة الفقراء.

ولهذا الغرض لا  ينبغي أن توفّر اتفاقية " الأليكا " فرصًا جديدة  فقط لأولئك الذين هم أكثر قدرة على الاستفادة منها  ولكن أيضا أن تأخذ في الاعتبار الأكثر ضعفا أي أولئك الذين  لا يقدرون  على الاستفادة منها. وبمعنى آخر السماح من خلال التعليم والتدريب بإعطاء شكل من أشكال تكافؤ الفرص  وجعل  الجميع متساوين عند خط البداية.

وإذا تم  وضعها  في  إطار رؤية عادلة وطويلة الأمد  فإن  الشراكة الأورو- متوسطية  مطالبة بأن تمكّن الشباب  من خلال الاستقلالية والقدرة على تحرير أنفسهم  من القيام بأعمال أفضل والخروج من أوضاعهم الصعبة .

وأعتقد أن اتفاقية " الأليكا " ستعمل على ترسيخ هذه الآلية بتسهيل الاندماج في السوق الداخلية للاتحاد الأوروبي للسلع والخدمات والاستثمارات التونسية من خلال التقارب التنظيمي والقانوني واقتصاد السوق.

ومن أجل دعم ديمقراطيتنا  وترسيخها  فإن اقتصاد السوق  حتى لو لم تكن مثاليًة  فهي  أمر لا غنى عنه.

ولتوضيح هذه الازدواجية  كتب المنشط الإذاعي والتلفزي والكاتب  الفرنسي  " Raphael Enthoven " في إشارة إلى حكاية ( أو أسطورة أو خرافة ) النحل:" للأفضل والأسوأ فإن اقتصاد السوق هو مهر الديمقراطية  حيث  من المفارقات أن تكون الأنانية الفردية  في نفس الوقت  أسوأ عدوّ و أفضل ضمان  ".

بقلم : غازي بن أحمد : رئيس المبادرة المتوسطية للتنمية 

التعليقات

علِّق